جَامِعُ الفَاتِحِ – الجُمُعَة – 24/7/1443ه المُوَافِق 25/2/2022م

فَضِيْلَةُ الشَّيِخِ الدُّكْتُوْرِ فَرِيْد بِنْ يَعْقُوْبِ المِفْتَاحِ

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ تَعَالَىْ وَنَفْسِيَ أَوَّلاً بِتَقْوَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىْ وَطَاعَتِهِ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الفُضَلاءُ الكِرَامُ: مِنْ شِيَمِ الكِرَامِ، وَمِنْ آدَابِ العِظَامِ، خُلُقٌ رَاقٍ سَامٍ كَرِيْمٌ، هُوَ خُلُقُ وَفَنُّ التَّغَافُلِ.

التَّغَافُلُ عَنْ الزَّلات، والتَّغَافُلُ عَنْ الهَفَوَاتِ والأَخْطَاءِ؛ ذَلِكُم الخُلُقُ السَّامِيْ الرَّفِيْعُ، والأَدَبُ الجَمُّ النَّبِيْلُ، الَّذِيْ لا يَتَحَلَّى بِهِ إِلاَّ أَهْلُ المُرُوْءَاتِ، ولا يَتَّصِفُ بِهِ إِلاَّ أُوْلُو الشَّرَفِ والمُكْرُمَاتِ؛ لأَنَّهُ دَلِيْلٌ عَلَىْ سُمُوِّ النَّفْسِ وَشَفَافِيَّتِهَا وَطِيْبَتِهَا وَصَفَائِهَا وَعَافِيَتِهَا، وَهُوَ مِمَّا يَرْفَعُ المَنْزِلَةَ، وَيُعْلِي المَكَانَةَ.

التَّغَافُلُ أَدَبٌ عَظِيْمٌ، وَخُلُقٌ رَاقٍ رَفِيْعٌ جَمِيْلٌ شَرِيْفٌ، تَأَدَّبَ بِهِ الحُكَمَاءُ، وَنَوَّهَ بِفَضْلِهِ العُلْمَاءُ، وُصِفَ بِأَنَّهُ خُلُقُ العُظَمَاءِ الكِرَامِ، مَنْ تَحَلَّى بِهِ رُزِقَ رَاحَةً فِيْ نَفْسِه، وَسَلامَةً فِيْ صَدْرِه، وَعَاشَ مَحْبُوْبَاً بَيْنَ النَّاسِ. يَقُوْلُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: “وَمَازَالَ التَّغَافُلُ مِنْ شِيَمِ الكُرَمَاءِ”. وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيِّ رَحِمَه اللهُ: “الشَّرَفُ بَيْنَ النَّاسِ فِيْ التّغافُل”. وَقَالَ الأَعْمَشُ رَحِمَهُ اللهُ: “التَّغَافُلُ يُطْفِئُ شَرَّاً كَثِيْرَاً، وَيَجْلِبُ خَيْرَاً وَحُبَّاً كَثِيْرَاً”.

أَيُّهَا الفُضَلاءُ: التَّغَافُلُ هُوَ تَعَمُّدُ الغَفْلَةِ، مَعَ أَنَّك تَعْلَمُ وَتُدْرِكُ كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَكَ، وَلَكِنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ تَرَفُّعَاً عَنْ سَفَاسِفِ الأُمُوْرِ. تَتَعَمَّدُ التَّغَافُلَ عَنْ أَخْطَاءَ وِهَفَوَاتِ الآخَرِيْنَ، وَتَتَعَامَلُ مَعَهَا وَكَأَنَّكَ لَمْ تَرَهَا، أَوْ وَلَكَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ عَنْهَا، تَفْعَلُ ذَلِكَ -تَغَافُلاً- لِتَرْتَاحَ وَلِتُرِيْحَ الآخَرِيْنَ، وَلِتَرْتَقِيَ بِتَعَامُلِكَ وَأَخْلاقِكَ وَشِيَمِكَ وَكَرَمِكَ. يَقُوْلُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَه اللهُ: “مَا اسْتَقْصَى كَرِيْمٌ قَطُّ”.

أَيُّهَا الكِرَامُ: التَّغَافُلُ دَلِيْلٌ عَلَىْ حُسْنِ خُلُقِ صَاحِبِه، وَكَرِيْمِ طِبَاعِهِ. ولْيُعْلَمَ أَنَّ الإِتِّصَافَ بِالتَّغَافُلِ لَيْسَ دَلِيْلاً عَلَىْ غَبَاءِ صَاحِبِهِ، أَوْ سَذَاجَتِه أَوْ ضَعْفِهِ؛ بَلْ هُوَ عَيْنُ العَقْلِ وَالمُرُوْءَةِ وَالحِكْمَةِ وَالأَدَبِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “العَقْلُ مِكْيَالٌ، ثُلُثُهُ فِطْنَةُ، وَثُلُثَاهُ التَّغَافُلُ”. وَيَقُوْلُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: “الكَيِّسُ العَاقِلُ هُوَ الفَطِنُ المُتَغَافِلُ”. قَالَ أَبُوْ تَمَّامٍ:

لَيْسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِيْ قَوْمِهِ * لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي

عِبَادَ اللهِ: مَنْ تَتَبَّعَ سِيَرَ وَتَرَاجُمَ العُظَمَاءِ، وَجَدَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِهِمْ التَّغَافُلُ. قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ مُتَحَدِّثَاً وَمُؤْرِخَاً عَنْ شَخْصِيَّةِ القَائِدِ صَلاحِ الدِّيْنِ الأَيُوْبِيِّ: “وَكَانَ صَبُوْرَاً عَلَىْ مَا يَكْرَهُ، كَثِيْرَ التَّغَافُلِ عَنْ ذُنُوْبِ أَصْحَابِهِ، يَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ مَا يَكْرُهُ، وَلا يُعْلِمْهُ بِذَلِكَ، وَلا يَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ”. هَذِهِ هِيَ أَخْلُاق العُظَمَاءِ، وَهَذِهِ هِيَ سِرُّ عَظَمَتِهِمْ، يَقُوْلُ الإِمَامُ جَعْفَرَ الصَّادِقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “عَظِّمُوْا أَقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ”.

وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ التَّغَافُلِ؛ أنَّهُ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ الرَّاحَةَ النَّفْسِيَّةَ، أَلا تَرَوْنَ كَيْفَ كَانَ المُشْرِكُوْنَ يَسُبُّوْنَ النَّبِيَّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَيَشْتُمُوْنَهُ وَيَقُوْلُوْنَ مُذَمَّمَاً، وَهُوَ يَقُوْلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: “أَلاَ تَعْجَبُوْنَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّيْ شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُوْنَ مُذَمَّمَاً، وَيَلْعَنُوْنَ مُذَمَّمَاً، وَأَنَا مُحَمَّد”.

وَلقدْ مَرَرْتُ عَلَى اللَّئيمِ يَسُبُّنِي* فَمَضيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لاَ يَعْنِينِي

أَمَّا الَّذِيْ يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ، وَيَرُدُّ عَلَىْ كُلِّ خَطَأٍ، وَيُحَاسِبُ عَلَىْ كُلِّ صَغِيْرَةٍ وَكَبِيْرَةٍ، فَهُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ شَقَاءً وَأَشَدُّهُمْ نَكَدَاً وَتَعَبَاً، يَقُوْلُ الإِمَامُ عَلِيٍّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ رَضِيُ اللهُ عَنْهُ: “مَنْ لَمْ يَتَغَافَلْ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ”. وَقِيْلَ للإِمَامِ أَحْمَد رَحِمَهُ الله: العَافِيَةُ عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةٌ مِنْهَا فِيْ التَّغَافُلِ، فَقَالَ رَحِمَهُ الله: “بَلْ العَافِيَةُ عَشْرَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِيْ التَّغَافُلِ”. وَفِيْ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ: “مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ”.

فَلا تُدَقِّقْ -أَخِيْ المُسْلِمُ الكَرِيْمُ- فِيْ كُلِّ صَغِيْرَةٍ وَكَبِيْرَةٍ مَعَ أَهْلِكَ، مَعَ وَالِدَيْكَ، مَعَ أَقْرِبَائِكَ، مَعَ ذَوِيْ رَحِمِكَ، مَعَ أَصْحَابِكَ وَجِيْرَانِكَ، فَتَحَلَّىْ بِالتَّغَافُلِ مَعَ مَنْ هُمْ حَوْلَكَ لِتَدُوْمَ المَحَبَّةُ وَالمَوَدَّةُ وَالوَصْلُ.

لِنَتَغَافَلَ -أَيُّهَا الفُضَلاءُ- حَتَّىْ تَسْتَقِيْمَ لِنَا الحَيَاةُ وَتَصْفُوَ. قَالَ بَعْضُ الحُكْمَاءُ: “وَجَدْتُ أَكْثَرَ أُمُوْرِ الدُّنْيَا لا تَصْلُحُ إِلاَّ بِالتَّغَافُلِ”.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا التَّخَلُّقَ بِهَذَا الخُلُقِ الرَّفِيْعِ الشَّرِيْفِ، وَأَرِحْ قُلُوْبَنَا بِالتَّغَاضِيْ وَالتَّغَافُلِ عَنْ سَيِّئَاتِ وَأَخْطَاءِ الآخَرِيْنَ. اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُوْرَنَا بِفَيْضِ الإِيْمَانِ بِكَ، وَجَمِيْلِ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَيَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِيْنَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيْمَ الجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ، وَلِسَائِرِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيْئةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْحَمْدُ لِلهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاهُ.

أَيُهَّا المُؤْمِنُوْنَ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ تَصْفُوَ حَيَاتُهُ، وَيْسَلَمَ صَدْرُهُ، فَلا يَبْحَثْ عَنْ الأَخْطَاءِ، وَلا يُدَقِّقْ فِيْ الهِنَاتِ وَالهَفَوَاتِ، وَلا يَتَتَبَّعِ العَثَرَاتِ. وَهَكَذَا كَانَ قُدْوَتُنَا وَأُسْوَتُنَا وَحَبِيْبُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: “لاَ يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِيْ شَيْئًا، فَإِنِّيْ أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَاْ سَلِيْمُ الصَّدْرِ”.

فَلَيْسَ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ نَتَحَلَّىْ بِالتَّغَافُلِ عَنْ الزَّلاتِ والهَفَوَاتِ، وَقِلَّةِ العَتَبِ عَلَىْ الأَحْبَابِ، لِيَبْقَىْ الوَصْلُ وَالحُبُّ وَالوُدُّ بَيْنَ الإِخْوَةِ وَالأُسَرِةِ وَالأَرْحَامِ وَالأَصْدِقَاءِ وَالجِيْرَانِ.

قَالَ ابْنُ الوَرْدِيِّ فِيْ لاَمِيَّتِهِ:

وَتَغَافَلْ عَنْ أُمُوْرٍ إِنَّهُ * لَمْ يَفُزْ بِالحَمْدِ إِلاَّ مَنْ غَفَلْ

وَيَقُوْلُ الشِّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:

أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كُلَّ مُوَاتِيٍ * وَكُلَّ غَضِيْضِ الطَّرْفِ عَنْ عَثَرَاتِيْ

يُوَافِقُنِيْ فِيْ كُلِّ أَمْرٍ أُرِيْدُهُ * وَيَحْفَظُنِيْ حَيّاً وَبَعْدَ مَمَاتِيْ

فَمَنْ لِيْ بِهَذا لَيْتَ أَنِّيْ أَصَبْتُهُ * لَقَاسَمْتُهُ مَا لِيْ مِنَ الحَسَناتِ

تَصَفَّحْتُ إِخْوَانِيْ فَكَانَ أَقَلَّهُمْ * عَلَىْ كَثْرَةِ الإِخْوَانِ أَهْلُ ثِقَاتِيْ

فَمَا أَحْوَجَنَا -أَيُهَا الكِرَامُ- إِلَىْ التَحَلِّيْ بِهَذَا الأَدَبِ الرَّفِيْعِ، وَهَذَا الخُلُقِ الرَّاقِيْ الجَمِيْلِ، وتَطْبِيْقُهُ عَمَلِيَّاً فِيْ وَاقِعِ وَفِيْ مَوَاقِفِ حَيَاتِنَا مَعَ مَنْ هُمْ حَوْلَنَا.

اللَّهُمَّ لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، رَبَّنَا وَلا تَجْعَلْ فِيْ قُلُوْبِنَا غِلاًّ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ.